من السهل أن نحمّل أصحاب المشاريع مسؤولية إهمال العلامة التجارية، وأن نتهمهم بالتركيز المفرط على النتائج السريعة والمبيعات المباشرة. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. فلو أنصتنا جيدًا لاعتراضاتهم، سنكتشف أنهم لا يرفضون فكرة “بناء العلامة” بحد ذاتها، بل يعترضون على المدخل الذي يُعرض عليهم من خلاله هذا البناء.

في العادة، يُقدَّم بناء العلامة التجارية كخيار ناعم ورومانسي، يقف على النقيض تمامًا من لغة المال والأرقام. وكأننا نضعهم أمام خيارين متعارضين: إما أن تبني علامة وإما أن تبيع. إما أن تهتم بالهوية والانطباع والانتماء، أو أن تلاحق المبيعات والإنجازات المالية.

هذا الطرح يخلق معادلة صفرية خادعة: وكأن الاستراتيجية التسويقية لا تحتمل التوازن، وكأن النجاح لا يمكن أن يجمع بين العمق والربح. ولهذا، حين يُعرض بناء العلامة في هذا الإطار، يختاره القليلون، ويُفضل الأغلب الاستمرار في الطريق الأسرع: الإعلان، ثم الإعلان، ثم خصم، فمبيعات.

لكن… ماذا لو لم يكن بناء العلامة خيارًا يمكن تجاهله؟
ماذا لو كان هذا البناء يحدث تلقائيًّا، حتى دون إنفاق ريال واحد؟
وماذا لو أعدنا التفكير في فهمنا للعلامة التجارية بوصفها نتيجة تراكميّة لسلوكنا السوقي، لا مشروعًا تجميليًّا يحتاج تمويلًا ضخمًا؟

العلامة تُبنى… سواء أردنا أم لم نرد

دعني أقدم لك مثالًا بسيطًا:

تخيل مطعمًا محليًّا قرر أن يُطلق عرضًا استثنائيًا في الأسبوع الأخير من كل شهر.
عرضٌ قوي، واضح، يكرره بلا انقطاع على مدار عام أو عامين.
ماذا سيحدث؟

سيبدأ العملاء بترقبه في نهاية كل شهر.
سيحفظونه.
سيشعرون أن هذا “طبع” من طباع المطعم.
ومع الوقت، سيتحول إلى صورة ذهنية راسخة، ينتج عنها انطباع وقيمة وولاء.

وهنا مربط الفرس:

هذا المطعم لم يصرف شيئًا تحت بند “بناء العلامة التجارية”، لكنه مارس سلوكًا تراكميًّا قابلاً للتكرار والانتظار، فصارت له علامة. إنها عملية بناء من نوع آخر… بناء بالممارسة لا بالمصطلحات.

وهذا ما تسميه بعض الأدبيات الحديثة بـ”الجاهزية الذهنية” (Mental Availability): أن تكون العلامة أول ما يتبادر إلى ذهن العميل عند حاجة أو مناسبة معينة.
وهو المفهوم الذي تناولته أبحاث Les Binet وPeter Field ضمن منهج “The Long and the Short of It”، والذي يشير إلى أن نجاح العلامات التجارية الكبرى لا يأتي من التكتيكات القصيرة فقط، بل من الجمع المتوازن بين أفعال آنية تخلق نتائج فورية، وأفعال تراكمية تخلق انطباعات طويلة المدى.

المشكلة ليست في العلامة، بل في تقديمها

حين تُقدَّم العلامة التجارية لأصحاب المشاريع بوصفها مشروعًا دعائيًّا صرفًا، يعتمد على الميزانيات الكبيرة، والوكالات الخارجية، والمصطلحات اللطيفة مثل “الرسالة” و”الهوية”، يصعب على كثير من روّاد الأعمال ابتلاعها.
خاصةً في بيئة عمل واقعية لا تعترف إلا بما يُقاس ويُربح.

لكن نفس هؤلاء القادة، حين يُعرض عليهم بناء العلامة من منظور الاستراتيجية السلوكية — أي من خلال أفعالهم المتكررة، وخياراتهم السوقية، وتوجهاتهم الثابتة — نجدهم أكثر تقبّلًا، بل وقد يكتشفون أنهم كانوا يبنون علامات دون وعي.

والأمثلة حولنا كثيرة:

  • تطبيقات توصيل اعتمدت التواصل الفوري والاعتذار السريع كأسلوب خدمة، فبنت صورة ذهنية إيجابية من دون إعلان ضخم.
  • شركات محلية عوّدت جمهورها على “حملات توقيتية” ثابتة — كجمعة آخر الشهر، أو عروض الافتتاحات — فأصبحت هذه الحملات جزءًا من العلامة ذاتها.
  • علامات ناشئة قررت ألا تُعلن بصيغة التخفيض، بل عبر قصص المستخدمين وتوثيق رحلتهم مع المنتج، فبنت سمعة طويلة الأمد بأقل كلفة.

كل هذه الأمثلة تؤكد أن بناء العلامة ليس بالضرورة استثمارًا ماليًّا، بل اختيار سلوكي تراكمي.

إذًا، ما الحل؟

الحل ليس في إنكار أهمية العوائد.
ولا في اختزال السوق إلى مبيعات فقط.
بل في تصحيح زاوية النظر: أن نفهم أن بناء العلامة لا يتعارض مع لغة المال… بل يخدمها، على المدى الأبعد.

ولعل أفضل صيغة للعمل هنا، هو أن نخصص تقريبًا:

  • 60% من الجهد التسويقي لبناء العلامة عبر وسائل مستمرة ومتكررة
  • و40% منه لحملات الأداء والمبيعات الفورية.

هذا التوازن لا يضحي بالأرباح، بل يضاعفها على المدى الطويل.

خلاصة القول

لن يستطيع أحد أن يوقف “بناء العلامة”، لأنها ببساطة ليست خيارًا، بل نتيجة حتمية لكل ما تفعله في السوق.
لكن السؤال الأهم هو:
هل تريد أن تُبنى علامتك بعشوائية… أم وفق استراتيجية واعية ومدروسة؟

عندما نُخرج بناء العلامة من إطار “المشاريع المكلفة” ونضعه في خانة “القرارات اليومية”، سنكسب شيئًا نادرًا:

علامة تُبنى من أرض الواقع، وتعيش فيه.

المقال سـ & جـ

لماذا يرفض بعض أصحاب المشاريع فكرة بناء العلامة التجارية؟

في الغالب، لا يرفضون فكرة البناء نفسها، بل الطريقة التي تُعرض عليهم بها، حين تُصوّر كأنها على حساب العوائد المالية أو بديلًا عن المبيعات.

هل يمكن بناء علامة تجارية دون إنفاق مالي مباشر؟

نعم، من خلال ممارسات متكررة تخلق توقعًا ذهنيًا لدى العميل، مثل العروض الدورية أو أسلوب الخدمة، مما يؤدي لتكوين صورة ذهنية مستقرة دون تكلفة إضافية.

ما الفرق بين بناء العلامة والمبيعات من حيث الأثر؟

المبيعات تُحقق نتائج فورية، بينما بناء العلامة يُنتج ولاء طويل الأمد وقيمة مستدامة، خاصة عند الجمع بين الاثنين بتوازن.

ما المقصود بـ “الجاهزية الذهنية” في العلامة التجارية؟

هي أن تكون علامتك أول ما يتبادر إلى ذهن العميل عند الحاجة، وتتحقق عبر التكرار والتماسك في السلوك السوقي، وليس فقط عبر الحملات الإعلانية.

كيف يمكن لأصحاب المشاريع الصغيرة بناء علامة دون ميزانية تسويقية ضخمة؟

ببساطة: عبر الاستمرارية في تقديم تجربة موحدة، تبني الثقة والانطباع، وتُحوِّل السلوك اليومي إلى أداة تسويق متراكمة.

ما التوزيع المثالي بين المبيعات وبناء العلامة في الجهد التسويقي؟

ينصح الخبراء بتخصيص 60% من الجهد لبناء العلامة على المدى الطويل، و40% لحملات الأداء والمبيعات القصيرة الأجل.

اترك أول تعليق