لعدة سنوات، عاش المسوّقون في بيئة تكنولوجية تُغريهم بشعور السيطرة: كل ضغطة، كل زيارة، كل تحويل، يمكن تتبعه وقياسه بدقّة تكاد تلامس الكمال. لكن هذه “الفترة الذهبية” انتهت.
الكوكيز، تلك الملفات الصغيرة التي كانت عيوننا الخفية على سلوك المستخدم، لم تعد تلعب دورها السابق. ومع اختفاء كوكيز الطرف الثالث تدريجيًا، أصبح التتبع الكامل ضربًا من الخيال.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: إذا لم تعد البيانات دقيقة 100%، فهل ما زال من المنطقي اتخاذ القرار وكأنها كذلك؟
الإجابة المختصرة: لا. والإجابة المفصّلة تبدأ من هنا.
انهيار الكوكيز: لماذا تغيّر كل شيء؟
لم يكن اختفاء الكوكيز وليد قرار مفاجئ، بل نتيجة سلسلة من الضغوط:
- قوانين حماية الخصوصية مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) وقانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا (CCPA) فرضت قيودًا صارمة على تتبع المستخدمين دون موافقتهم.
- المتصفحات الكبرى مثل Safari وFirefox أوقفت دعم كوكيز الطرف الثالث بشكل افتراضي منذ سنوات. أما Google Chrome، فقد بدأت فعليًا تقليص استخدامها عبر مبادرة Privacy Sandbox.
- الدراسات تشير إلى أن ما يصل إلى 90% من المستخدمين قد يتصفحون الإنترنت مستقبلًا في بيئة خالية تمامًا من التتبع عبر الكوكيز، كما أوضحت Northbeam.
النتيجة: البيانات التي نراها في لوحات تحكم الإعلانات والتحليلات لم تعد مرآة دقيقة للواقع، بل انعكاسًا جزئيًا ومشوّهًا له.
وهم “الرقم الواحد”: ما الخطر الحقيقي؟
حين يتعامل المسوّق مع رقم مثل “42% من المستخدمين أكملوا التسجيل”، فالمفترض أن هذا الرقم مبني على تتبع دقيق لكل من شاهد الإعلان، وتفاعل، وزار الموقع، وسجّل.
لكن في ظل اختفاء الكوكيز، قد يُستثنى من التتبع:
- مستخدمون يرفضون ملفات التتبع.
- زوّار من متصفحات لا تسمح بتخزين الكوكيز الخارجية.
- أجهزة تعتمد على VPN أو وضع التصفح الخفي.
فإذا كان جزء معتبر من الجمهور غير مرصود أساسًا، فإن بناء القرار التسويقي على رقم يبدو دقيقًا لكنه ناقص في جوهره أشبه باتخاذ قرار مالي اعتمادًا على نصف كشف الحساب.
البدائل الذكية: كيف نتحرّك في بيئة غير كاملة؟
أ. الإحصاءات التراكمية: اعرف الاتجاه لا النقطة
عوضًا عن التركيز على أرقام لحظية، اتجه إلى قراءة الاتجاهات التراكمية على مدى أسابيع وشهور.
مثلاً: بدلًا من سؤال “ما أداء الحملة خلال يوم الجمعة؟”، اسأل: “كيف تغيّر معدل التحويل خلال شهر كامل مقارنة بالشهر السابق؟”.
ب. النماذج الاحتمالية للإسناد: فكّر في الاحتمال لا اليقين
عندما يصبح تتبع المستخدم من أول إعلان حتى إتمام الشراء مستحيلًا، نلجأ إلى الإسناد الاحتمالي (Probabilistic Attribution).
هذه النماذج تستخدم بيانات جزئية لإعادة بناء رحلة المستخدم اعتمادًا على الحساب الإحصائي، لا على التتبع الكامل.
منصات مثل Salespanel وFuture Demand تقدّم رؤى وأمثلة عملية على كيفية تطبيق هذا النهج.
مثال توضيحي:
بدلاً من الجزم بأن “محمد” اشترى بسبب إعلان معين، تقول النماذج الاحتمالية إن 30% من المشترين من هذا النوع يُرجّح أن الإعلان المذكور أثّر في قرارهم بنسبة معينة.
ج. اختبارات A/B دورية: التحقق لا يزال ممكنًا
حتى مع ضعف التتبع، تظل اختبارات A/B أداة قوية.
قسّم جمهورك إلى مجموعتين، وغيّر عنصرًا واحدًا فقط (كعنوان الصفحة أو وقت عرض الإعلان)، ثم قِس الفرق في النتائج.
هذا لا يحتاج إلى تتبع فردي كامل، بل إلى مقارنة سلوكية إجمالية بين المجموعتين.
د. تحليل طيف النتائج: لا تصدّق المتوسط وحده
من الأخطاء الشائعة في التسويق الرقمي هو اتخاذ القرار بناءً على “رقم واحد”، كمتوسط تكلفة الاكتساب (CAC).
لكن المتوسط يُخفي كثيرًا من الفروقات.
الأذكى هو تحليل طيف النتائج: كم نسبة العملاء الذين كلفوا أقل من 50 ريال؟ وكم من تجاوزوا 150؟
فهم التوزيع يكشف فرص التحسين والتقليل من الهدر بشكل أدق من الاعتماد على المتوسط وحده.
الخلاصة: من يتحرك الآن، يتفوّق لاحقًا
التحول من التفكير الحتمي (deterministic) إلى التفكير الاحتمالي (probabilistic) ليس رفاهية، بل ضرورة.
الشركات التي تتبنى هذا التحول مبكرًا تبني ثقافة قرار مرنة، قائمة على التجربة، والتحقق، والتحليل بدلًا من التتبع الأعمى.
في عالم لم يعد يعترف باليقين الكامل، فإن “الاحتمال المدروس” هو السلاح الحقيقي.
المقال سـ & جـ
لماذا لم تعد بيانات الحملات الإعلانية دقيقة كما كانت؟
لأن كوكيز الطرف الثالث لم تعد مدعومة في معظم المتصفحات، ما يقلل القدرة على تتبع المستخدمين بدقة، ويجعل البيانات ناقصة أو غير مكتملة.
ما المخاطر من الاعتماد على رقم واحد في اتخاذ القرار؟
الرقم قد يبدو دقيقًا لكنه مبني على عينة غير كاملة. تجاهل المستخدمين غير المتعقّبين قد يؤدي إلى قرارات مضللة تضرّ بالكفاءة التسويقية.
كيف أقيّم أداء حملتي دون تتبع كامل للمستخدمين؟
اعتمد على الاتجاهات التراكمية، واستخدم نماذج إسناد احتمالية لا تفترض يقينًا، إلى جانب اختبار A/B وتحليل توزيع النتائج بدلًا من المتوسط فقط.
ما المقصود بالإسناد الاحتمالي؟
هو نموذج تحليلي يُقدّر مساهمة كل قناة تسويقية في القرار الشرائي بناءً على أنماط واحتمالات، لا على تتبع مباشر وفردي للمستخدم.
هل ما زال اختبار A/B مجديًا في ظل غياب الكوكيز؟
نعم، لأنه يقارن بين مجموعات كاملة بناءً على النتائج الفعلية، ولا يتطلب تتبعًا شخصيًا دقيقًا لكل زائر.
ما الفائدة من تحليل طيف النتائج بدلًا من الاكتفاء بالمتوسط؟
لأن المتوسط يُخفي التفاوت بين شرائح المستخدمين، بينما الطيف يوضح التوزيع الفعلي للتكلفة أو الأداء، ويكشف فرص التحسين بدقة أعلى.
قد يُعجبك أيضًا: