دعنا نتفق من البداية: لا أحد يشتري منتجًا فقط لأنه موجود.

ولا لأن سعره مناسب.

ولا حتى لأنه الأفضل في السوق.

العميل يشتري لأسباب أعمق بكثير مما نتصور…

أسباب تدفعه من الداخل، تتعلق بعقله، بمشاعره، بهويته، وحتى بما يريد أن يبدو عليه أمام الناس.

السؤال الحقيقي إذًا ليس: كيف نبيع أكثر؟

بل:

وإن فهمنا هذا، كيف نُخاطبه في حملاتنا ومنتجاتنا لنكسبه بثقة؟

هذا ما نحاول أن نغوص فيه في هذا المقال، اعتمادًا على علم النفس السلوكي، وتجارب السوق، ونماذج تسويقية أثبتت أثرها.

لِم يشترى الناس؟ دوافع الشراء تحت المجهر

حين يدخل العميل إلى المتجر، أو يتصفّح منتجك على الموقع، يبدو الأمر بسيطًا:

“أعجبه شيء، فاشترى”.

لكن الواقع مختلف تمامًا.

وراء هذا القرار توجد دوافع نفسيةتتشابك مع بعضها، تتأثر بتجارب سابقة، وتستند إلى رغبات ظاهرة وأخرى دفينة.

العقل البشري لا يتعامل مع الشراء كصفقة مالية فحسب، بل كفعل اجتماعي، وهوية، وتأكيد ذات.

ولنقترب أكثر، دعنا نمرّ على أبرز هذه الدوافع.

الرغبة في تجنّب الألم أو التخلص من الإزعاج

هذه واحدة من أقوى المحرّكات على الإطلاق.

الناس يشترون ما يُخفف عنهم، ما يُزيل الإحراج، ما يُنقذهم من موقف، أو يُسكت ألمًا حقيقيًا أو متخيّلًا.

حين يشتري أحدهم تطبيقًا لإدارة الوقت، غالبًا لا يشتري التطبيق… بل يحاول أن يتخلص من الشعور الدائم بالتشتت.

وحين تشتري سيدة منتجًا لتنظيف الأرضيات سريعًا، فهي لا تدفع مقابل الأداء… بل مقابل الوقت الذي لن يضيع، والجهد الذي لن يُبذل.

علم النفس السلوكي يصف هذا بدافع الإحساس بالخطر أو التهديد، وهو ما يجعلنا نتحرك بسرعة.

هل من دليل؟


في دراسة نُشرت في Tasmanic تبين أن الناس يستجيبون أكثر للإعلانات التي تسلط الضوء على ما قد يخسرونه، أكثر من تلك التي تركز على ما قد يربحونه.

الحاجة إلى الانتماء

الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يحب أن ينتمي، أن يشعر أنه “جزء من شيء”، وأنه ليس وحده.

وهذا يظهر بوضوح في سلوك الشراء.

عندما يشتري أحدهم منتجًا يحمل شعارًا شهيرًا، أو ينضم إلى مجتمع خاص بمشتركي خدمة معينة، فهو لا يشتري المنتج فقط، بل يشتري شعور الانتماء.

مثال واضح: بعض العلامات مثل Nikeأو Appleبنَت ولاء عملائها على هذا الشعور بالانتماء، لا على الميزات التقنية فحسب.

العميل يشعر أنه من فئة معينة، أو “واعي” أكثر من غيره، أو “أسبق” إلى الجديد.

الرغبة في التميّز أو إثبات الذات

هل لاحظت أن بعض المنتجات تُباع بأسعار مرتفعة رغم وجود بدائل أرخص منها بنفس الجودة؟

السبب ببساطة: الرغبة في التميّز.

العميل هنا لا يشتري “المنتج” بقدر ما يشتري “ما يقوله هذا المنتج عنه”.

ساعة فاخرة، حذاء مميز، أو حتى خدمة تقدمها بطريقة استثنائية… كلها أدوات يُعبّر بها العميل عن ذاته أو يثبت بها مكانته.


في أحد أبحاث Journal of Business Research، أظهرت النتائج أن الناس يميلون إلى شراء العلامات الفاخرة في المناسبات التي يشعرون فيها بالتهديد الاجتماعي (مثل مقابلات العمل أو المناسبات العامة )، في محاولة لتعويض الشعور بالخطر النفسي.

حب السيطرة والاختيار

من الدوافع الخفية التي تحرّك المستهلك:

الرغبة في أن يشعر بأنه من يملك القرار.

إذا شعر العميل أن المنتج فُرض عليه، أو أن خياراته محدودة، تقل رغبته في الشراء.

لكن حين يشعر بأنه يختار بحرية، وأنك تمنحه السيطرة – حتى ولو وهمية – تزيد احتمالية اتخاذ القرار.

من هنا تأتي أهمية عرض البدائل، وتخصيص المنتج، وحتى إعطاء مساحة للرفض.

مثال:

بعض المواقع تعرض 3 باقات للأسعار، وتضع توصية على واحدة منها.

العميل يشعر هنا بأن القرار قراره، رغم أن التصميم نفسه يقوده بلطف نحو الخيار المثالي.

التأثير الاجتماعي… أو ما يسمى “العدوى الشرائية”

هل سبق ورأيت منتجًا مكتوبًا عليه “الأكثر مبيعًا”؟

أو إعلانًا يقول “انضم إلى ١٠٠ ألف مشترك”؟

هذه ليست صدفة.

العقل البشري مهيأ لأن يسترشد بسلوك الآخرين، خاصة عندما لا يكون القرار واضحًا.

هذه الظاهرة تُعرف باسم Social Proof، وهي من أقوى أساليب التحفيز على الشراء.

وليس شرطًا أن تكون الأرقام ضخمة.

يكفي أن تُظهر أن غيره اختار المنتج قبله، ليشعر بالطمأنينة تجاه القرار.

تأثير الندرة والعَجلة

حين يشعر العميل أن المنتج “قد ينفد قريبًا”، أو أن العرض “ينتهي بعد ساعتين”، تنشط في دماغه منطقة تُحفّز على اتخاذ القرار بسرعة.

العجلة هنا لا تُصنع فقط من باب الترويج، بل كأداة لتحريك اللا وعي.

لكن انتبه: الندرة المصطنعة تفقد تأثيرها مع التكرار، وتُفقد العلامة التجارية مصداقيتها إن اكتشف العميل الخدعة.

الرغبة في الشعور بالرضا النفسي أو المكافأة

في بعض الأحيان، يشتري الناس فقط لأنهم “يستحقون ذلك”.

هدية لأنفسهم. مكافأة بعد إنجاز. أو حتى تهدئة لحالة مزاجية سيئة.

هذه الدوافع لا ترتبط بالعقل، بل بالمزاج.

وقد تكون بسيطة جدًا: كوب قهوة من علامة محببة، أو اشتراك شهري في منصة، أو منتج فاخر ولو لم يكن ضروريًا.

وهنا يأتي دور الإعلانات التي تخاطب “الراحة”، “الدلال”، “الاستحقاق”، وتُلمّح بأن المنتج نوع من العناية بالنفس.

ماذا نفعل بهذه المعرفة؟

قد تسأل الآن: حسنًا، عرفنا ما الذي يدفع العميل…

فماذا نفعل بهذه المعلومات في أنشطتنا اليومية؟

الإجابة:

كل نقطة مما سبق يجب أن تُترجم في:

  • طريقة صياغة رسالتك التسويقية
  • شكل عرض المنتج أو الخدمة
  • تصميم الموقع أو المتجر
  • طريقة كتابة الإعلانات
  • حتى نبرة التواصل مع العميل في البريد الإلكتروني أو منصات التواصل

كل شيء يجب أن يخاطب دافعًا واحدًا على الأقل، بصدق، دون مبالغة، وبشكل يُشبه العميل لا يُبهره فقط.

الخلاصة: القرار ليس دائمًا عقلانيًا

العميل لا يشتري بالمنطق وحده، بل بالمشاعر.

ورغم أن الأسباب الظاهرة قد تكون “الجودة” أو “السعر”، إلا أن ما يحدث خلف الكواليس أعمق بكثير.

حين تفهم هذه الدوافع، لا تكون مهمتك فقط أن تبيع، بل أن تُقنع، وأن تُريح، وأن تلامس حاجة ربما لم يعرفها العميل في نفسه.

وهنا، تتحوّل العملية من “عرض وطلب” إلى علاقة تُبنى، وتُثمر، وتستمر.

اترك تعليقك