حين يسأل أحدهم: “أي قناة جلبت لنا هذا العميل؟” فغالبًا ما نميل للإجابة بنوع من الثقة الزائدة: “من إنستغرام”، “من إعلانات جوجل”، أو “من تيك توك”.
لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. فالسلوك الشرائي لا يحدث عبر نقطة واحدة، بل عبر سلسلة من التفاعلات التي تترابط وتتراكم حتى تُولد الثقة، وتدفع العميل للقرار.

في هذا المقال، نعيد النظر في منطق إرجاع الفضل التسويقي لقناة واحدة، ونكشف عن أهمية النماذج الاحتمالية الحديثة في فهم أثر كل نقطة تفاعل، وكيفية الاستفادة منها لتوزيع الميزانية واتخاذ قرارات مدروسة.

الرحلة الحقيقية للعميل

لنفترض السيناريو التالي، الذي تكرره آلاف المرات يوميًا في بيئات التجارة الرقمية:

  1. يرى العميل إعلانًا قصيرًا لمنتج فاخر على إنستغرام.
  2. لا يضغط، لكنه يفتح جوجل بعد أيام ويبحث عن اسم المتجر.
  3. يدخل إلى الموقع، يستعرض المنتجات، لكنه لا يشتري.
  4. أثناء تصفحه تيك توك، يظهر له إعلان لنفس المنتج لكن بطريقة أكثر جذبًا.
  5. بعد يومين، يصله بريد إلكتروني بعرض محدود. فيقرر الشراء.

السؤال الآن: من المسؤول عن البيع؟
هل هو الإعلان الأول الذي أثار انتباهه؟ أم محرك البحث؟ أم الفيديو الذي رسّخ الفكرة؟ أم الإيميل الذي حسم القرار؟

الحقيقة أن كل نقطة تفاعل كان لها دور نسبي.
ولذا، لا يصح أن ننسب الفضل الكامل لقناة واحدة ونتجاهل البقية.

النماذج الحتمية: قراءة ناقصة للواقع

طوال سنوات، اعتمد المسوقون على نماذج “حتمية” Attribution Models لتقييم فعالية القنوات. هذه النماذج تعطي كل الفضل لقناة واحدة فقط:

  • نموذج اللمسة الأخيرة (Last Touch): يعطي 100٪ من الفضل لآخر قناة تفاعل قبل الشراء
  • نموذج اللمسة الأولى (First Touch): يعطي 100٪ من الفضل لأول نقطة تفاعل

لكن هذه النماذج تعاني من مشكلة واضحة: تبسيط مخلّ لواقع معقّد.
فهي تتجاهل التأثير التراكمي للنقاط الوسيطة، ولا تأخذ في الحسبان أن العميل قد يمر بخمس أو ست تفاعلات قبل اتخاذ القرار.

بحسب Funnel.io، فإن هذا التبسيط يؤدي إلى قرارات خاطئة في توزيع الميزانيات، وقد يجعل الشركات تستثمر بشكل زائد في قناة واحدة ظنًا منها أنها “السبب الوحيد” في النتائج.

النماذج الاحتمالية: حين تُحسب كل لمسة

المسار الأفضل لفهم رحلة العميل هو استخدام نماذج احتمالية (Probabilistic Models) أو ما يُعرف أحيانًا بـ النماذج المبنية على البيانات (Data-driven Attribution).

هذه النماذج لا تسأل “من السبب؟”، بل تسأل:

“ما احتمال أن تكون هذه النقطة قد أثّرت على الشراء؟”

وللإجابة، تقوم بتحليل بيانات مئات أو آلاف الرحلات الشرائية، وتقيس مدى مساهمة كل نقطة بناءً على أدلة إحصائية.

من بين أبرز التقنيات المستخدمة:

  • سلاسل ماركوف (Markov Chains): تحلل احتمالية التحويل عند إزالة قناة معينة من مسار العميل
  • نماذج بايزية (Bayesian models): تقدّر الأوزان النسبية للقنوات اعتمادًا على التحويلات المحتملة
  • نماذج تعلّم الآلة: مثل نموذج LiDDA الذي طوره فريق LinkedIn، ويعتمد على البيانات التاريخية لتقدير تأثير كل نقطة على القرار النهائي

هذه النماذج تمنحنا منظورًا أعمق: كل قناة تلعب دورًا – قد يكون صغيرًا أو كبيرًا – لكنه مؤثر.

تطبيق عملي: كيف تبني نموذج قياس فعّال؟

لا تحتاج إلى تعقيد تقني كبير لتبدأ. إليك خطوات عملية لأي فريق تسويقي:

  1. اجمع بيانات دقيقة: لكل جلسة، وكل قناة، وكل تفاعل.
  2. حلل المسارات الكاملة: لا تركز فقط على اللمسة الأخيرة.
  3. طبّق نموذجًا مناسبًا:
    • إن كنت في بدايتك: استخدم النموذج الخطي أو U-shaped
    • إن كنت تمتلك بيانات كافية: جرّب النموذج الاحتمالي أو تقنيات ماركوف
  4. اختبر صحة النتائج دوريًا: تأكد من أن توزيع الفضل يتطابق مع السلوك الحقيقي
  5. استخدم النتائج لتوزيع الميزانيات: لا تفرط في تمويل قناة فقط لأنها تظهر في التقرير الأخير

متى تُصبح هذه النماذج حتمية لتفوقك؟

في بيئات المنافسة الشديدة (مثل التجارة الإلكترونية، التطبيقات، الخدمات الرقمية)، يصبح الفارق بين النجاح والفشل في التسويق هو فهم الرحلة كاملة، وليس مجرد تتبع “المصدر النهائي” للتحويل.

باستخدام النماذج الاحتمالية، يمكن للشركات:

  • التعرف على القنوات التي تهيئ العميل نفسيًا
  • معرفة أي الحملات تخلق “طلب مؤجل” لا يظهر إلا لاحقًا
  • رفع قيمة العميل العمرية عبر فهم اللحظات الحاسمة في قراره
  • تجنب الاعتماد على مصادر تبدو ناجحة ظاهريًا، لكنها تعتمد على جهود قنوات أخرى

خلاصة القول

ليس هناك “قناة خارقة” في التسويق. بل هناك رحلة متعددة النقاط، كل منها يضيف لبنة صغيرة في بناء القرار.

التحليل الصحيح لا يعتمد على التفاعل الأول او الأخير مع العميل، بل على فهم وزن كل تفاعل وتأثيره المحتمل.

وكلما كانت أدواتك أدق في القياس، كانت قراراتك التسويقية أذكى، ونتائجك أكثر اتساقًا.

المقال سـ & جـ

هل يمكن الاعتماد على قناة تسويقية واحدة لمعرفة سبب الشراء؟

لا، لأن العميل يمر عادةً بعدة نقاط تفاعل قبل اتخاذ القرار. إرجاع الفضل لقناة واحدة يقدّم صورة غير دقيقة ويؤدي لقرارات تسويقية مضللة.

ما المشكلة في نماذج “اللمسة الأولى” أو “اللمسة الأخيرة”؟

هذه النماذج تتجاهل تأثير بقية التفاعلات التي تُسهم في بناء القرار، مما يجعلها غير مناسبة لتوزيع الميزانيات أو تقييم أداء القنوات.

ما الفرق بين النماذج الحتمية والاحتمالية في قياس الأداء؟

النماذج الحتمية تُعطي كل الفضل لنقطة واحدة، أما الاحتمالية فتوزع الأثر بين جميع النقاط بناءً على بيانات وتحليلات إحصائية دقيقة.

كيف تعمل النماذج الاحتمالية مثل سلاسل ماركوف؟

تحلل ما سيحدث لو أزلنا قناة معينة من مسار العميل، مما يساعد على تقدير دور كل قناة في دفع العميل نحو الشراء.

هل من الضروري استخدام أدوات متقدمة لبناء نموذج فعّال؟

ليس دائمًا. يمكن البدء بنماذج بسيطة مثل النموذج الخطي، ثم التدرج إلى نماذج أكثر دقة كلما توفر لديك بيانات أعمق.

ما الفائدة الفعلية من هذه النماذج في البيئات التنافسية؟

تمكّنك من فهم تأثير كل حملة بدقة، وتحسين توزيع الميزانية، والتنبؤ بسلوك العملاء بطريقة واقعية تعزز النمو وتحسن العائد على الاستثمار.

اترك أول تعليق